ثقافة عودة على بعض الأفلام الفائزة بمهرجان كان... بقلم الناقد السينمائي طاهر الشيخاوي

بقلم الناقد السينمائي طاهر الشيخاوي
لا أعتقد أن هناك فائدة في مناقشة قرارات لجنة تحكيم الدورة 78 لمهرجان كان السينمائي، الأهم هو الكتابة عن الأفلام لأنّ تداخل الذاتيات المكوّنة للجان مسألة معقدة لا تخضع لخطّ تحريري متجانس يمكن اعتماده في إصدار أحكام أيديولوجية أو فكرية. من السهل التعبير عن السخط على أصحاب القرار، قد يعطي ذلك مشروعية للناقد، لا كناقد سينمائي وإنما كناقم على المؤسسة في عصر طغت عليه الشعبوية بمختلف اتجاهاتها. ليس كلامي موجّها لشخص بذاته ولا هو درس في الأخلاق. هو فقط توضيح يخصّ تصوّري الشخصي للكتابة عن السينما في السياق الخاص بي.
لا يعني هذا طبعا الامتناع عن التعليق، فالتعليق أمر عادي بل مستحسن عندما ينطلق صاحبه من تقييمه الخاص للأعمال المتحصّلة وغير المتحصّلة على الجوائز ولا يرتكز على نوايا يعتقد أنها مبيّتة.
كنا تعرضنا لعدد من الأفلام التي أحرزت على جوائز قبل نهاية المهرجان ولم نتناولها كلّها، فلنواصل حديثنا انطلاقا أولا من تلك التي وردت في قائمة الفائزين.
الجائزة الخاصة للجنة التحكيم لفيلم القيامة لبي غان
لنبدأ بفيلم "القيامة" (Resurrection). بي غان (Bi Gan) سينمائي صيني من مواليد 1989 يعتبر من أهم رموز الجيل الجديد، لم يدرس السينما، دخل الميدان بفضل إعانة مالية من والدته وتشجيع من أستاذه. اكتشفه جمهور المولعين بالسينما عندما عرض شريطه الطويل الأول "كايلي بلوز" سنة 2015 بلوكارنو حيث تحصل على جائزة أفضل مخرج صاعد.
خصّته لجنة التحكيم بجائزة خاصة منوّهة بتفرّده من حيث الشكل. لا شك أنّ بي غان أبلى البلاء الحسن في هذا المجال. تميّز عمله ببراعة فائقة، أولى عناية مفرطة بمكونات الصّورة من أضواء وتركيب. العمل لا يحيل مباشرة على وقائع اجتماعية أو بشرية يمكن للمشاهد متابعتها. الصورة تحيل على الصورة، فيلم يروي ان شئنا تاريخ السينما، فكل مشهد يحمل في طياته بطريقة مباشرة وفي أغلب الأحيان بطريقة غير مباشرة مشاهد سابقة بارزة في تاريخ السينما. عرض مسترسل ومثير وبارع جدّا للقدرة التعبيرية للفنّ السينمائي في منحاها التعبيري التجريبي التقني. أهمية العمل تكمن في أنّ بي غان لم يقتصر على التذكير بل يذكّر ويحاكى ما يذكّر به في مزايدة قد تزعج أحيانا كأنما يرغب في اقناعنا بقدرته على امتلاك اللغة والسيطرة على أدواتها. والحقيقة أنه توفّق في ذلك.
"العميل السري" لكليبر ماندوسا فيليو يحصد جائزة الإخراج
نال "العميل السري" (L'agent secret) الفائز بجائزة الإخراج اعجاب الجميع. في خامس عمل له يتألق كليبر ماندوسا فيليو(Kleber Mendonça Filho) من جديد. أحداث القصّة ترجع إلى سبعينات القرن الماضي تحت نظام العسكر الدكتاتوري. الخيط الرابط يتابع أستاذا سابقا يلاحقه النظام في نوع من الثريلر، لكن السرد ينحى أسلوبا رمزيا يأخذ من التراث (كالساق المبتورة في بطن قرش كبير) ومن المخلوقات العجيبة (كالقط ذي رأسين) في بنية سردية مركبة (تروي الحكاية شابة في 2022) ما يضفي على الفيلم كثافة دلالية تجعل منه في الوقت نفسه فيلما بوليسيا، سياسيا، تاريخيا، لا يخلو من الكوميديا والخرافة. تألق فائق زاد في توفقه أداء فاغنر مورا الذي تحصل على جائزة أفضل ممثل.
الجائزة الكبرى لـ"قيمة عاطفية" للمخرج النرويجي جواكيم تراير
أما "قيمة عاطفية" (Valeur sentimentale) للمخرج النرويجي جواكيم تراير(Joachim Trier) الفائز على الجائزة الكبرى، فهو عمل متوازن ودسم يخفي أسرارا وأسرارا. أوّل شخصية في الفيلم منزل قديم ومهيب، الشقّ يحكي تاريخه، منزل يتجاوز حدود المنزل، كأنما يرمز إلى بيت أكبر، إلى بلد أو قارة، ثم هناك غوستاف الأب الشيخ، سينمائي مشهور، صعب المراس، يرجع إلى المنزل حاملا مشروعا جديدا، يقترح على ابنته الكبرى نورى دور الشخصية الرئيسية، ترفض نورى وكلّها غيض بسبب غياب الأب وقلة عنايته بها. يلتجئ إلى ممثلة مشهورة، تثير بقدومها ذكريات مرّة. طريقة جواكيم تراير تذكر بعالم برغمان حيث يمتزج الحميمي بالكوني والعاطفي بالذهني والسيرة الذاتية بالمسيرة الإنسانية.